17 - 07 - 2024

وجهة نظري| طبيب الغلابة

وجهة نظري| طبيب الغلابة

رحل الدكتور مشالى ..الذى إستحق لقب طبيب الغلابة عن جدارة، رحل مخلفا حالة من الحزن خيمت على قلوب الكثيرين.. ربما لم يكن يحلم أو بالأدق لم يكن يشغله كثيرا تلك الضجة التي شهدها رحيله.. ظنى أنه لم يفكر يوما فيمن يرثيه أو يشيعه لمثواه الأخير أو يخلد سيرته أو يقيم عزاء ضخما له. فمثل ذلك الطبيب العظيم لايمكن أن يؤرقه سوى تقديم المساعدة لمن وهب حياته لهم .كل ماكان يؤرقه هو حال الفقراء والبسطاء والمهمشين الذين إبتلاهم الله بالفقر والمرض وأغلقت في وجوههم أبواب الأمل إلا بابه ظل مفتوحا لهم.. جنيهات قليلة يكتفى بها مقابل خبرته وعلمه.. لم يسع للمال ولا للجاه، لكن همه كان رسم بسمة على وجه البسطاء بعدما يكتب على يديه الشفاء.

كان ملاكا للرحمة في زمن لا يعترف بتلك الفضيلة. فبدا أقرب لرجل خارج عن عصره غريب عنه، لايعرف مفرداته.. لغته.. معاييره الحاكمة والمتحكمة في علاقات افراده.. الأنانية التي وسمت تلك العلاقات.. الغطرسة والتعالى والإستعلاء.. المادية وحب المظاهر والبعد عن كل ماهو إنسانى نبيل.. الجشع.. القفز على جثث الآخرين لنيل منصب أوجمع مال.. فساد الذمم وخواء النفوس وموت القلوب.

ترفع الدكتور مشالى عن كل تلك الصغائر التي تحكم واقعنا الشرس، وآثر الحياة في عالمه الخاص وفق قواعده الإنسانية التي وضعها بنفسه ولنفسه.

ستة وسبعون عاما قضاها طبيبا بدرجة إنسان.. رحلته لا تبدو سهلة مثل سائر البسطاء الذى ساندهم بقناعة أنه واحد منهم.. من قرية ظهر التمساح بمحافظة البحيرة كانت البداية ولد عام 1944 ثم انتقل مع أسرته ليقيم في طنطا.. كان حلمه أن يلتحق بكلية الحقوق ليصبح محاميا لكنه التحق بكلية الطب امتثالا لرغبة والده.. فتخرج طبيبا بقلب محاميا وهب نفسه للدفاع عن حقوق الفقراء في العلاج، ومد يد العون لهم حتى يكتب لهم الشفاء من المرض والألم.

انتقل للعمل بين الوحدات الصحية التابعة لوزارة الصحة وافتتح عيادته في منتصف السبعينيات.. كانت ملاذا للفقراء لم يتأخر على أحد منهم، وظل حتى آخر أيامه لايحصل سوى على جنيهات محدودة لم تتعد العشرة جنيهات.

كان من الممكن أن تمضى حياته دون أن ينتبه أحد إليه، فظنى أنه لم يشغله كثيرا أن يعرف أحد ما يفعله ولم ينتظر ثناء على مايقدمه من خدمة إنسانية ولم يعنيه أن يذيع صيته ويشار له بالإمتنان والفخر.

لكن نال كل الثناء والامتنان والفخر بعد رحيله ليكتب إسمه بحروف من نور ويصير رمزا للتضحية والإنسانية والعطاء.

خلف رحيله دون أن يدرى قدرا كبيرا من الحزن في نفوس الكثيرين وإن كان حجم الرثاء لم يمنع قدرا من الغضب تسلل رغما عن البعض بعدما توقف قليلا أمام مسيرة عطاء ذلك الطبيب الجليل.

فهيئة الرجل وبساطة حاله وشكل عيادته تجعلنا نرثى على مصير كل من آثر العطاء وتفانى في التضحية واعتبر مهنته رسالة إنسانية وليس وسيلة لحصد الأموال وجمع الثروات حتى لو كانت على حساب أرواح الآخرين وآلامهم، كما يفعل الكثيرون للأسف.

لم يمتلك الدكتور مشالى سيارة ولم يحمل يوما موبايل، لكنه نجح في الوصول لقلوب الكثيرين في العالم الافتراضى والواقعى، فرثاه الجميع بحزن نبيل، بدا اقرب إلى رثاء لحياتهم القاسية الغليظة المفتقدة للإنسانية التي وجدت في تخليدها لطبيب الغلابة فرصة للتطهر والتخفيف من جلد الذات، والبحث عن ثغرة أمل تعيد للنفوس اللاهثة قدرا من آدميتها .. اندفع الكل لتكريم الرجل وتخليد ذكراه.. نعاه مجلس الوزراء واصفا إياه بالقدوة والعلامة المضيئة في سجل أبناء الوطن داعيا الشباب أن يخلدوا إسمه بحروف من نور ..وقررت محافظة الغربية إطلاق اسمه على أحد شوارعها وعلى أحد مراكزها الطبية.. بينما قررت محافظة البحيرة مسقط رأسه إطلاق اسمه على أحد المعالم بقريته ظهر التمساح.

هل كان يحلم الدكتور مشالى بكل هذا التكريم، لاأظن أن مثل ذلك الرجل الذى كان ينظف سلم عيادته بنفسه كما حكى أحد جيرانه شغله ذلك.. فقد عاش ومات كناسك زاهد لايهمه سوى الفقراء، عاش لهم ومعهم وظل طيلة حياته يأبى إلا أن يكون واحدا منهم.

رحل دكتور الغلابة في هدوء لكن رحيله فجر صخب الرثاء وفجر معه صخب التساؤلات المزعجة.. كم من طبيب يسير على نهج دكتور مشالى؟ كم مشالى نجهلهم ولانعرف عنهم شيئا.. كم من مشالى في كل مجال يعملون في صمت ولم تقدنا الصدفة لمعرفتهم عن قرب..كم مشالى رحل عاش ينذر نفسه للإنسانية ولم نهتم بتكريمه إلا بعد أن يوارى الثرى.. كم مشالى هرعنا إلى تخليد ذكراه بعد رحيله ولم نفكر أن نعيد تقييم حياتنا لنسير على نهجه.. حقا ما أسهل الرثاء وما أصعب الاقتداء وفهم وتبنى الهدف من المعنى والمقصد من الرسالة، لروحك السلام الطبيب الإنسان.

--------------------------

بقلم: هالة فؤاد








مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | بائعة الخبز وتجار الأوهام